الدِلاء وقِرَب الماء
رشا الدويسان
في هذا التأملات الشعرية، تتوسع رشا الدويسان في قصيدتها "الدِلاء وقِرَب الماء" التي ألقتها في شهر مارس 2024 ضمن فعاليات لقاءات البينالي في ببينالي الدرعية للفنون المعاصرة.
خلال كتابة أي قصيدة، هناك الكثير مما يتم تعديله أو حذفه أو ركنه على جنب. أليست هذه قصة كل قصيدة؟
إذا اعتبرنا هطول المطر على تراب الصحراء صورة مجازية عن الكتابة، فيمكننا تشبيه المطر بالإلهام الذي يسبق القصيدة. يبدأ الأمر بعاطفة أو إحساس يليه سيل من الأفكار والصور، وتيار من التأملات. وإذا اعتبرنا المناظر الطبيعية صفحات من كتاب، يمكننا تخيل الطرق التي يهطل بها المطر، وكيف يمكن لمياه المطر أن تنساب عبر الرمال وتصل إلى مخزون المياه الجوفية. وكيف يمكن لهذه المياه أن تغذي جذور الشجيرات؟ وكيف يمكن أن تجد طريق العودة عبر بئر أو في فيضان.
عندما بدأت التحضير لمشاركتي في بينالي "ما بعد الغيث"، راودتني الكثير من الأفكار. دوَّنتُ ملاحظات كثيرة حول بيت الشَعر. وكيف كانت النساء يلتقطن شَعر الماعز والإبل بأصابعهن من بين الرمال، ثم يقمن بحياكته ليصبح جدراناً يبلغ ارتفاعها عشرة أمتار. ثم عندما يهطل المطر، ينتفخ الشَعر ويمنع دخول الماء.
بدأت برسم خرائط ذهنية حول حبات التمر. حول قشرتها المتجعدة ومخزونها الكبير من المعادن، وكيف يتم نقع بذورها لتستخدم كعلف للحيوانات. أخذت أتأمل في حقيقة أن فاكهة بالغة الحلاوة تنبت في بقعة في غاية الجفاف. قرأت عن الرجال وهم يقضون ساعات طويلة في حفر الآبار بأيديهم، وكيف كانت القبائل تخفي خزانات المياه. قرأت الأساطير والحكايات الشعبية، والأغاني والمعتقدات القديمة. بحثت في قِرَب الماء، وهي قوارير جلدية تُصنع من جسم الماعز بعد قطع الرأس والقدمين.
لكن لا بد من استيعاب أن القصيدة ليست وجهاً للحقيقة، بل هي بنت العاطفة. هي ما يجتمع في قاع الصفحة حتى نرمي بدلونا إليه فنلتقطه. هي نسكبه في القِربة. هي ما يختلج ويمتزج داخلنا. هي ما نرتشفه فيتجسد فينا.
في النهاية، كتبت قصائدي على أمل أن تتجسد العاطفة في الصورة، أو الصورة في العاطفة. تركز أملي هنا في ذلك الشعور بالقلق، قلق الأمومة، القلق من النسيان، قلق الوجود. في قصيدتي "حافة المطر"، مثلاً، كان للحد الفاصل بين مكان سقوط المطر وعدم سقوطه صدى حقيقي في كياني الجسدي. الشعور بالتمدد إلى حد يقارب التبدد. الشعور الطاغي بالتقدم في السن.
عندما حاولت الكتابة لأول مرة عن ظاهرة حافة المطر، تحدثت في قصيدتي عن رجل يبحث عن تلك الحافة، وكيف كان يسير في الصحراء باحثاً عن النقطة التي يتوقف عندها المطر، وكل ما كان يمر به الرجل من نباتات وحيوانات، ورمزية كل منها. كان يغرس كل بذرة يجدها. وفي النهاية، بشكل عفوي تماماً، تغيرت السردية بكاملها وعدت أتأمل في نفسي. أتأمل في زمننا الحالي، حسب تجربتي أنا.
قد يجد ذلك الرجل الذي ظهر في مسودتي الأولى طريقه نحو قصيدة أخرى. أو ربما سيواصل التجوال إلى أجل غير مسمى. في كلتا الحالتين، لا بد أن تظل الأماكن والأشخاص والأشياء الموجودة في قصائدنا حية. يجب إطعامها وريّها ورعايتها. يجب أن تستمر في الوجود، فربما في وقت ما من المستقبل، ستتساقط كقطرات المطر على صفحات جديدة.
تم إنتاج العرض الأدائي "الدِلاء وقِرَب الماء" (2024) بتكليف خاص من مؤسسة بينالي لدرعية، وتقارن فيه الفنانة بين تعاطي الإنسان مع المطر بين الماضي والحاضر في جزيرة العرب. في هذا العمل، تجمع الفنانة بين الكلمة والشعر والصوت، في سردية تحكي لنا عن التغير الكبير في دور المطر في حياتنا اليومية خلال القرن الماضي. فبعد أن كان مصدراً هاماً للحياة ينتظره الجميع بلهفة، أصبح الآن مجرد تغير جوي لا نكترث له كثيراً أو قد نعتبره حدثاً يربك سير حياتنا اليومية. تسرد لنا الفنانة لمحات عن الحياة الاجتماعية والأسرية في زمننا المعاصر، وتعيد النظر فيها عبر عدسة تراثية وتاريخية. . تعرض لنا الدويسان تصورات متعددة تركز على المكونات المادية، والمناظر الطبيعية، والملامح العمرانية، لتطرح تساؤلات حول التغيرات التي طرأت على تفاعلاتنا مع الطبيعة وكيف أثر ذلك على إحساسنا بالذات وبالعالم من حولنا.